قصة قصيرة
أذكر أننا تلاقينا ، في مكان لانقصده أبدا ، يعبره المارون كل يوم ، ويدلون بحديث عابر
تشعل أهك كثيرا ، وتردد بهمس أنك مللت صمت الطريق ، أذناك لا تسمع شيئاً !!
حتى أنا .. لست أرى ، أسير دون هوية ، تركتها في أدراج والدي ، وذهبت أمشي
أطرق أبواب المدينة ، أبحث عن شخص يذكر أسمي ، والدتي ملتني ..
لم تعد تتهجى كتابي ، ولم تتصل مرة دون أن تنسى ، كنت أحرف لساني ..حتى لا أقول
لأبي أنها تسألني عن أخباره ، وتستقصى صحته ، هل يزداد ابتساما أو أهلكه الهم ..
هي تدري أني لا أجيبها أبدا ، وأنوخ الجواب على سؤال مكرر ..!
نحن هنا لا ندري ما الذي أتى بنا الى هذا المكان ، الحي الذي تسكنه الطير
بيوته مهدمة خربة ، طال بها الأمد ، المتشردون يمرون بنا ، يتهامسون
وأبقى أنظر لعينيك هل تدلني على الطريق ، والدي ينتظر .. أذكر أنه
أوصاني بأن أجلب كيس خبز من بقالة تبعد عن منزلنا تقاطع شارعين ..
لكني لم أجد خبزاً ، الطير التي ترفرف ، تحشد بمناقيرها حبات الذرة ..
سألتك .. عطشتُ كثيرا ، الشمس حارقة ولست أقوى على الوقوف تحتها,
تمشي مسرعا وثيابك الرثة تجر وراءها عناءك ، أركض .. ألهث أدعوك أن تتوقف
تمجِّدُ الصمت أكثر ، للظل الذي تحت الشجرة الكبيرة ، أجلس القرفصاء
الأرض متسخة ، قاذورات عمال النظافة تدثر كل شبر بهذه الأرض ، أطالبك
أن تعيدني الى منزلنا ، تشيح بوجهك ، ولحيتك الكثة تجاهر بالقلق الوثير ..
أكتفي بصرخة تعادل الألم الذي يجتث روحي ، لكنك لا تتحرك ، تنظر الى هناك
أبعد من الظل الذي يجيد حياكة السكون ، في مكان خالِ ، لا يمكن أن يمر بنا أحد
أنظر لأصابعي أتحسسها ، أذكر بأن لكل مفصل فيها شيءٌ يُقال ، ولكني نسيت اللغات كلها، وصرت أجمع كفيّ وأهمس ، ليس لدي لغة ، ضاعت لغتي ، كيف أستعيدها؟
لساني لا يستطيع تجميع كلمة ناطقة ، أراك تبتعد ، يزيد خوفي من الشجرة العملاقة
التي يستطيل بها الغروب المخيف ، ظلها يزداد ، يعاقر كل الأرض ، وكل ما تصله عيناي.
أراك ذاهب الى هناك ، لا تتوقف أبدا ، أستجمع قواي ، أمشي اليك ، متلمسةً طريقك
بيننا أربعة أمتار ، مشينا ساعتين أو ثلاث، كلما تعبتَ وجلستَ أجلس،وكلما أكملت مسيرتك، أكملتها ..
وصلنا لآخر المطاف مركز كبير ، مواقف السيارة مساحات خالية ، كنت تشير لي بأن اسارع المشي حتى وصلت اليك ، أمسكتَ كفيَّ لأجلس على كرسي أبيض رث ، جلستُ
ولستُ أفهمُ ما الذي أتى بنا الى هذا المكان؟! ، نظرتَ إليَّ وأنت تشير بأن أجلس ولا أبتعد ..
وذهبتَ تسارع الخطى بإنهاكك وتعبك ، تفحصت المكان وتأملت مساحاته ، لست أدرك
أتيتَ إليَّ مبتسما ، وأنت تمد قنينة ماء ، وكيسا مليئا بالخبز ، ضحكتُ لأجلك ،
شعرت بأنك قط لم تعتد سرقة الأطعمة ، أخذتُ القنينة حاولت فتحها لم أستطع أعدتها اليك ،
تسألني ماذا ، حاولت أن أنطق ، لكني لم أستطع ، أشرتُ لك بأن تفتحها ، لم تستطع ذلك. أخذت تجترح القنينة ، بأسنانك لم تفكها ، أخذت قاعدتها وثقبتها ، ضحكت كثيرا ،أنهمر الماء بين يديك ، ودفعتها إلي فمي ، شربتها ونسيت العطش ،
لكنك لم تشرب بعد ، مددتها إليك ، وأعدتها ..
أخذتَ كرسياً مقارباً وجلستَ واضعاً رأسك بين ذراعيك المضمومتان وغمرت وجهك بينهما، محاولا النوم ،
جلست أضم ساقيَّ إليَّ ، وأغمض عيني وأحتضن نفسي ، لست أخشى شيء
لكني .. قلقة على والدي ، لابد انه جن لتأخُّرِ عودتي ، كيف لي أن أكون هنا !
أخوتي ، مهاتفاتهم وسيارات الشرطة ، وغمزات أبناء الجيران ، وإشاعات النساء.
أمي بالتأكيد علمت ، وخالي الكبير ، وجدتي المريضة ، كلهم سينصبون خماري
وينشرون على مائدة الظن السيء خبر يشبه الاختطاف ، الاغتصاب وستنتهي
القصة بجثاميني مقتولة على حافة طريق سفر بعيد ..
شهقت أبكي ، ما الذي سيجعلني أعود ، ولمَ اليوم الحارق كتب علي أن أذهب
دون هوية مع رجل لا أعرفه لكنه يعرفني جيدا ، ليس شريرا ، ولا يريدُ ثمناً
من لحمي ، لم ينهشني بعد ، ولم يحمل في جيوبه سكينا أو علبة مخدر ..
ربتت يد على كتفي ، صرختُ دون توقف ، أستنجد دون لغة ، صرخ عاليا
وهو يزيح يدي عن وجهي ، خفتُ كثيرا ، لا أريد أن يمزقني كقصص المختطفين
ولا أريد أن أفتح عيني على نهاية معدمة ..
أفقتُ صباحا على أثر شعاع ، أعلم أن الأشعة تثير صداعي ، نظرت لنفسي
أتفحص لباسي ، هل تمزق؟ هل وهل وهل ... ؟
لازلت بخير ، نظرت إليه القابع على الرصيف ، يفكر عميقا وهو يأكل قطعة من الخبز
إستدرك صحوي ، ابتسم وهو يناديني لأشاركه ، لكني وقفت وقذفت الكرسي
حاولت النفاذ ، ركضتُ ركضتُ ، لكنه الطريق لا يركض ، أو إنه يسير عكس اتجاهي
ويعيدني لنفس مكاني ، وهو يضحكُ عميقا ، بعدما قام إلي وجلس القرفصاء وأخذ بطرف
عبائتي من تحت الكرسي ، كنت أوشك على الضحك ، لكني ركلته على خاصرته ،
فلم يتحرك ، تجمد مكانه ، وتَّابعت ركلاتي حتى ضعفت طاقتي وأخذت أصرخ
قام ممسكا يدي ، كالمعتوه ، وأخذني لأجلس على ذات الرصيف ، قدم لي خبزا بالجبن
وشايا بكوب بلاستيكي ، يبدو قديما ، فلم أشرب ، لازلت أكره أن يشاركني أحد بكأسي..
ابتسم وهو يهم بعيدا عني ، ذهب للبوابة الزجاجية ، رأينا عمال النظافة ، ونشوة الحركة
تعيد للحياة أنفاسها ، فرحت جدا ، بأن هنالك كائنات بشرية أمام عيني ، شعرت بصداع الجوع ، وأكلت دون أن أتوقف ، عاد إلي يستحثني أن آتي معه ، ذهبت معه ،
دخلنا عند البوابة الزجاجية ، ووقف مخاطبا رجل بالإشارة ، وهو يشير لي ، رآني الرجل .. خفت كثيرا من نظرته ، لابد أنه شرير وسيفعل ...
بكيت دون توقف ، نزعني من يده ، وذهب بنا الى مكتب بارد ، هاتف كثيرا ،
وأنتظرنا لساعتين ، حتى سمعت لجاجة عند الباب ، سمعت صوت والدي ، وأخوتي
وخالي الكبير ، شعرت بأن مراسم الحداد قد بدأت ، كيف لي أن أجيبهم على سؤالاتهم
فقط أحتاج لحضن والدي وغيره لا يهم ، دخل والدي وأخذني مسرعا دون أن يشفق
أو أن أنظر لوجهه ، وأخوتي ورائي يجرون الصمت نفسا عميقا ، وصلنا لسيارتنا
فتح الباب أخي ودفعني أبي داخلها ، لم أشعر بالاكتفاء من البكاء ،
كلما حاولت قراءة ملامح أبي ، ازددت يقينا بأني لا أعرفه الآن ..
إستنطقوني .. أخوتي إلى أين أخذني هذا الغياب؟ ، فلم أكن مختطفة ولا ضائعة
لكني غبت دون سبب ، حديث طويل لست أفهمه ، ضجر خوف قلق والكثير الكثير من الظن
عدت الى منزلنا ، واجهتني أختي ، وأشاحت عني وجهها ، سقطت أبكي لست أدرك
سقط من يدي كيس الخبز ، وتناثرتً أجمعُه ألا يغرق ..
بقلم : هدى النامي
إرسال تعليق
جميع الردود تعبر عن رأي كاتبيها فقط ، وحرية النقد متاحة لجميع الأعضاء والقراء والقارئات الكرام بشرط ان لايكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من العبارات البذيئة وتذكر قول الله تعالى " مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد" صدق الله العظيم