معاناة الإنسان .. حينما تأتي المنح من المحن ..
- بقلم : الشيخ : محمد مسعد ياقوت
صدق الله القائل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد4]!
لقد خلق الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا، يكابد صنوف المعاناة في شتى مراحله؛ منذ صرخة الوضع، وحتى سكرة الموت، يتقلب من طبقٍ إلى طبق، ويكدح من طلب إلى طلب، وينتقل من قوة إلى ضعف، ومن صحة إلى مرض، ومن غنى إلى فقر، ومن عزٍّ إلى ذلٍّ، ومن عزوة إلى وحدة، وكأنما تقول له الدنيا: إنما أنا دار عناء، وإنما الراحة الأبداية في جنات الله، كان ذلك في الكتاب مسطورًا.
***
تعريف المعاناة:
ورد في معاجم اللغة ما مضمونه؛ أن المُعاناة هي: المُضاناةُ، والمشاقاة، والمقاساة، والمعاجاة، والمعالجة في الأمر، والممارسة للأمر، والمعاناة هي احتمال الشدائد، فمن لم يحتمل فلا يقال: عانى شيئًا، وبعض أهل اللغة فسر المعاناة بالمداراة.
قال الأخطل [1] :
فإن أكُ قد عانيت قومي وهبتهم فهلِّهل [2] وأوِّل عن نُعَيم بن أخثما
وأنشد ابن الأنباري في قولهم: عناني الشيء، أي: "شغلني" [3] :
عناني عنك والأنصاب حَرْب كأنَّ صُلاتها الأبطال هَيِم
وقال آخر [4] :
لا تلمني على البكاء خليلي إنه ما عاناك ما قد عناني
وقال آخر [5] :
إنَّ الفتى ليس يُقيمه ويقمعه إلا تكلُّفه ما ليس يعنيه
حتمية المعاناة:
إنَّ الإنسان يعاني منذ اللحظة الأولى وحتى آخر لحظة في حياته؛ إذ "يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به, ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد! وكل خطوة بعد ذلك كبد, وكل حركة بعد ذلك كبد.
والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي؛ يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة" [6] .
"وعند بروز الأسنان كبد، وعند انتصاب القامة كبد، وعند الخطو الثابت كبد، وعند التعلم كبد، وعند التفكير كبد، وفي كل تجربة جديدة كبد؛ كتجربة الحبو والمشي سواء! " [7] .
"ثم تفترق الطرق, وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف، وهذا يكدح لملك أو جاه, وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة.. والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء " [8] .
***
أنواع المعاناة:
من فضل الله على الإنسان: أنه ينفعه بتلك المعاناة التي يعانيها في الحياة الدنيا، وذلك على حد سواء مع المؤمن والكفر؛ فأما المؤمن فهي ميزان حسانه، وأما الكافر فهي تذكيرًا له، وتخفيفًا عنه من قِطِّّه قبل يوم الحساب.
ومن صور تلك المعاناة التي تصيب الإنسان:
1- الألم الجسدي والمرض:
ومن ذلك سائر الأمراض والأوجاع الظاهرة والباطنة التي تصيب الجسد.
عن عَائِشَةَ -رضى الله عنها- زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ, حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا" [9] .
2- الهم والغم والألم النفسي عمومًا:
وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الهم والغم والحزن، ويقول: "اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ" [10] .
وأشار القرآن إلى حقيقة مهمة، مفاداها: أن الشيطان مصدرٌ أساسٌ في كثير من المتاعب النفسية التي يعانيها المؤمنون: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة10].
ولمَّا امتنَّ الله على يونس -عليه السلام- لم يمتنَّ عليه بشيء كما كما امتنَّ عليه بنجاته من الغم: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء88].
وبمثل ذلك قاله في موسى -عليه السلام-: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه40].
وأرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنجع علاج نفساني، كان ذلك في معرض دعائه العظيم:
"مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِى بِيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِىَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ؛ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً" [11] .
3- معاناة الألم الذهني والاستغراق في التفكير:
وحدث ذلك كثيرًا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لانشغال قلبه بأمته، غير أن أبرز مثال على ذلك: استغراقه في التفكير عند عودته من رحلة الطائف المريرة، إذ لم يستفق إلا بقرن الثعالب، فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم– أنها حَدَّثَتْهُ فقَالَتْ: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، فقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ, وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ [12] , إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ, فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ, فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي, فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ, فَرَفَعْتُ رَأْسِي, فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ, وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ, فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ, فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ, إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ [13] , فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" [14] .
4- المعاناة في طلب الرزق:
إنَّ الله عز وجل من حكمته أنه فاضلَ بين الناس في الرزق؛ ليبلوهم في ذلك: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى 27].
وإن هذا التفاضل لَينطوي على حِكمٍ جليلةٍ، لا مجال لسردها، وحسبك من ذلك: أن الفقر يكون خيرًا لإنسانٍ ما، والغنى يكون خيرًا لإنسان آخر، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء30]، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت62].
وكثيرًا ما يجد البسطاء في أحوال الأغنياء عِبرة وعظةً, بل سلوانًا لهم في معاناة الفقر: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص82].
ولشدة تلك المعاناة التي يكابدها الفقير؛ من ضيق اليد، وقلة الحيلة، وضعف الظهر، وقسوة المعيشة؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بالله -كثيراً- من الفقر والعجز والمغرم (وهو الدَّين)؛ إذ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ, وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ, وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ, وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ, وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقبر.. " الحديث [15] .
ولقسوة الفقر كذلك، فقد نصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الموصي ألا يتجاوز في وصيته عن الثلث؛ لئلا يدع عياله عالةً على الناس، فعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ, وَأَنَا ذُو مَالٍ, وَلاَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ, أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ قَالَ: الثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ, وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ؛ إِلاَّ أُجِرْتَ, حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِ امْرَأَتِكَ " [16] .
لذا دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه بكثرة المال والغنى، فقال: " اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ, وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ " [17] .
والفقر سلاحٌ يُلوِّح به الشيطان، يُخوف به الناس؛ فيحزنون، ويبخلون: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة268].
أي: الشيطان يخوِّفكم الفقر إن أنتم أنفقتم، يُوسوس لأحدكم: لا تنفق مالَك حتى لا تجوع، فهو يدفعكم دفعاً نحو البخل، الذي تسميه العرب فُحشًا.
وقد ورد في ذم البخل أكثرُ من نص، وحسبك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بالله في صباحه ومسائه وصلاته من البخل: " أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ, وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ, وَعَذَابِ الْقَبْرِ, وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ, وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ " [18] .
وقال تعالى يثني على عباده المؤمنين، ويذكر من جملة صبرهم أنهم صابرون على البأساء وهو الفقر:
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة177].
و قوله (وَالصَّابِرِينَ): منصوبة على المدح، الذي يفيد الحث على الصبر والتشجيع عليه.
ومن مجالات الصبر في هذه الآية على النحو التالي:
أ - في البأساء: فيصبر المسلمُ على لأواء الفقر، ويصبر على قلة الطعام، ورثاثة اللباس، وضيق المسكن، وضعف المركب، فالمسلم في هذا العصر وهو يكابد صنوف الضيق والضنك في المعيشة يؤجر على ذلك؛ ما دام صابرًا محتسبًا.
ب - وفي الضراء: فيصبر على المرض على اختلاف أحواله، كالصبر على تقلبات الألم، والصبر على مرارة الدواء، والصبر على وخزات الحُقن، والصبر على أحوال الأطباء، وقد أشرنا إليه في معاناة المرض.
ج - وحين البأس: فيصبر على مواجهة العدو، وما في ذلك من حراسة، وقلة نوم، وضعف عدة, وما في ذلك أيضًا من جراحات و إصابات، كما يصبر على الأسر إن أُسر، وهو أيضًا يتخلق بأخلاق المؤمنين إن هو أَسر، وسنشير إليه في فقرة تالية عن معاناة العدو.
وقد جعل الله جائزة هؤلاء الصابرين عظيمةً، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
وقال تعالى مُرَغِّباً في الصبر على الفقر: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة214].
وقال مُحذِّرًا عباده من إرسال نقمة الفقر عليهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام42]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف94].
5- معاناة المرء في زوجه:
لقد عانى جماعةٌ من أنبياء الله من أزواجهم أيما معاناة، وكنَّ هؤلاء النسوة مصدر فتنة وبلاء لهؤلاء الأنبياء الكرام:
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم10].
بل قد تصير الزوجةُ عدوةً لزوجها، تجلب له التعاسة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن14].
وقد تكونُ الزوجةُ باباً للولوج إلى الفسق، إذا ما انشغل المرء بها عن حب الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة24].
6- معاناة الأب مع أولاده:
كما ابتلي يعقوبُ -عليه السلام- بأولاده الذين غَيَّبُوا يوسف عنه في الجب، ثم في الرقِّ، ثم في السجن.
كذا ابتُلي نوحٌ في ولده، وقاسى به حُزنًا كبيرًا، دفعه أن يسأل ما ليس له به علم، وعلى إثر ذلك السؤال لقنه الله درسًا عظيمًا، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 45-47].
وقد بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- كل من ابتلي بشيء من هذه البنات، وكابد في تربيتهن، وصبر على إطعامهن وكسوتهن:
فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها- قَالَتْ: " دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ, فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا, فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا, ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ, فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا, فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ؛ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ " [19] .
7- المعاناة مع العدو:
وخير ما نتمثل به لذلك؛ قصة غزوة أحد، وما كابده الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في ذلك اليوم العظيم.
وقد قال تعالى مواسياً لهم عن جراحات هذا اليوم العظيم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 139- 142].
وقد كانت الدائرة في بادىء الأمر للمسلمين؛ إذ صبروا, فضربوا روائع الأمثلة في البطولة والشجاعة، فصدقهم الله وعده، وحَسَّوا بسيوفهم رقاب المشركين، وحصدوا بميامنهم أرواح المجرمين، وقد وصف الله تعالى هذه الجولة الأولى بقوله:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
ولَمَّا بدأ الجيش الوثني في الفرار، وبدأ المسلمون في جمع الغنيمة أراد الرماة أن ينزلوا إلى ساحة المعركة لجمع نصيبهم؛ فقال أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ!.. ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ [20] !
ثم غادر أربعون رجلاً -أو أكثر- مواقعهم من الجبل، والتحقوا بالجيش ليشاركوه في جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وحوالي تسعة من الرماة، والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء.. وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد البقية المتبقية من جيش الرماة، ثم انقض خالد على المسلمين من خلفهم، فانقلبوا على المسلمين، وأُحيط المسلمون من الأمام والخلف، وتفرَّقت كلمتهم، وذهبت ريحهم، وأُشيع مقتل الرسول، والرَّسُولُ يدعوهم فِي أُخْرَاهُمْ [21] ..
ولم يبق مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، وحاول المشركون قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمطروه ضربًا، فشُجَّ وَجْهُهُ الشريف، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُه الكريمةُ، وَجُرِحَتْ وَجْنَتُهُ الطاهرة، وَجُرحت شَفَتُهُ السُّفْلَى مِنْ بَاطِنهَا، وَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وقَتل المشركون من المسلمين سَبْعِينَ من أكارم الصحابة، وعلى رأسهم حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وحنظلة بن أبي عامر.
وأَعمل المشركون الـمُثلة بجثث الشهداء، فبقروا البطون، وجدعوا الأنوف، وقطعوا الآذان، وهكذا كانت المأساة الكبيرة.
إنَّ الدارس لهذه الغزوة يكاد لا يلوي على شيء حدث في هذه الغزوة سوى خبرِ شجِّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكسر رباعيته، فضلاً عن تلك الضربات التي دفعته نحو الأرض، حتى قال: " كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ " [22] .
فما حدث للنبي -صلى الله عليه وسلم- من ضرب وجرح وقرح، أمر خطير جلل، وجدُّ صعب، وأحرى بنا أن نقف نتأمل هذا المشهد الخطير، وهذا النموذج من المعاناة التي كابدها النبي -صلى الله عليه وسلم- ضد أعدائه.
8- معاناة الداعية مع المدعوين:
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في هذا الباب، وفي سنته وسيرته غير ما مَثَلٍ على معاناته مع قومه.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبث الصبر في نفوس أصحابه، ويسكب الطمأنينة في قلوبهم؛ ليخفف من معاناتهم، وليوصلوا مسيرتهم في تبليغ الإسلام حتى يأذن يُظهره الله.
فعن خَبَّابِ بْنِ الأرَتِّ -رضي الله عنه- قَالَ: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا! أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا! فقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.. وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " [23] .
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمرُّ بالمستضعفين فيشد على أيديهم، ويصبِّرهم، ويبشِّرهم بالجنة.. فَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيه -وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ- إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ, فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَيَقُول: " صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ؛ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة " ، فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا, وَهِيَ تَأْبَى إلا الإسْلامَ [24] .
وجدير بالإشارة أن نزول آيات الصبر قد امتدت على طول الفترة المكية، تقود خطوات المؤمنين الدعاة خطوة خطوة، فَتَمَرَّنُوا على تحمُّل المشاقِّ وتحمل الأذى، وضبط الإرادة، وألا تكون تصرفاتهم ردود أفعال، كما تدرَّبوا على الالتزام بما يرد عن الله تعالى، مع أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [25] .
ومن صور صبره -صلى الله عليه وسلم- على معاناة الإيذاء في سبيل دعوته: ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسَلاَ جَزُور [26] بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغني شيئًا، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ " ثلاث مرات؛ فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ " -وعدَّ السابع فلم نحفظه- فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عدَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرعى في القَلِيب.. قليب بدر [27] .
ولما سمعت أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ -حَمّالَةَ الْحَطَبِ- ما نَزَلَ فِيهَا, وَفِي زَوْجِهَا أبي لهب مِنْ الْقُرْآنِ؛ أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ, وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَلا تَرَى إلا أَبَا بَكْرٍ, فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَيْنَ صَاحِبُك؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي, وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْتُ بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ! أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمّ قَالَتْ:
مُذَمَّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا ... وَدِينَهُ قَلَيْنَا..
ثُمّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك؟ فَقَالَ: "مَا رَأَتْنِي! لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي".
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مُذَمَّمًا, ثُمّ يَسُبُّونَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَقُول: " أَلا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ, يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا, وَأَنَا مُحَمّدٌ " [28] .
ومَرَّ أَبُو جَهْلٍ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ –أي: عن الصلاة هنا- فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: لِمَ تَنْتَهِرُنِي يَا مُحَمَّدُ؟! فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا رَجُلٌ أَكْثَرُ نَادِيًا مِنِّي!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل-: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق: 9-19] [29] .
9- معاناة الغُربة والوطن:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَكَّةَ:
" مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ! وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ " [30] .
وعن أبي هريرة قال: وَقَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فقال: " عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " [31] .
إنَّ حب الأوطان غريزة جُبل عليها الإنسان، فأنت ترى البشر في شتى بقاع الأرض لا يغادرون أوطانهم في أكثر الأحيان إلا باضطرار، على إثر ظلم أو زلزال أو فيضان، أو غير ذلك من الأسباب، فتَعَلُقُ الإنسانِ بوطنه من أمور الفطرة التي جَبَل اللهُ الناسَ عليها.
بل إنَّ من علامة الشعور الصحي وسلامة المشاعر من القبح والغلظة: أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة.. فأولى البقاع بصبابتك إليها بقعةٌ رضعتَ ماءها، وطعمتَ غذاءها، وهذا بابٌ من الوفاء، وغير ذلك سوءُ أصل وجفاء..
وفوق ذلك: أن حب الأوطان من شيم أهل الكرم، وقد قالوا في الأمثال: (الكريم يحنُّ إلى وطنه، كما يحنُّ الأسد إلى غابه)، وإذا كان الطيرُ العتيقُ يتوق إلى أوكاره؛ فالإنسان الكريم أحقُّ بهذا الشعور إلى أوطانه..
ومهما تَنَعَّمَ المهاجرُ في دار هجرته؛ فلا بد للنفوس من اشتياق إلى الأوطان وتولُّع، ونزوع نحوها ورغبة وتطلُّع، وحنين دائم يؤرق المضجع، لا سيما إذا جاءت أخبارٌ عن الوطن؛ حينها يحِنُّ القلب حنين الإبل إلى أعطانها، وكانت حال الاضطراب هي حال القلب، كما كانت حال قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أيام غربته؛ إذْ لـمّا اشتَاقَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة -محل مولده ومنشئه- أنزل الله تعالى عليه قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص85 ]، يعني: إلى مكة..
لقد جعل الله الخروج من الديار كقتل النفس, فقال في آية:
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ..} [النساء: 66]، فسوَّى بين الموت والهجرة!
وقال الله تعالى أيضًا -وقد قرن بين الموت والهجرة-:
{وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا..} [البقرة246].
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
قال شاعر:
إذا ما ذكرتُ [الوطن] فاضت مدامعي وأضحى فؤادي نُهبةً للهماهمِ
حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرَّ شاربي وحُلَّت بها عنِّي عقود التمائمِ
وألطفُ قومٍ بالفتى أهلُ أرضه وأرعاهمُ للمرء حقَّ التقادمِ
[1] تهذيب اللغة للأزهري (1/383).
[2] هلهل: تأن وانتظر.
[3] تهذيب اللغة للأزهري (1/383).
[4] تهذيب اللغة للأزهري (1/383).
[5] تهذيب اللغة للأزهري (1/383).
[6] سيد قطب: في ظلال القرآن (8/41).
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] أخرجه البخاري (5640)، ومسلم (6730).
[10] أخرجه البخاري (2893).
[11] أخرجه أحمد (8/311)، وغيره، والحديث في السلسلة الصحيحة (199).
[12] هي عَقَبَة الطائف، وليس كما ذهب القسطلاني أنها عقبة منى.
[13] الأخشب من الجبال: الخشن الغليظ، وأخشبا مكة: جبلاها، قاله الإمام البغوي في شرح السنة.
[14] أخرجه البخاري (3231).
[15] أخرجه البخاري (6368 ).
[16] أخرجه البخاري (6373).
[17] أخرجه البخاري (6378).
[18] أخرجه البخاري (4707).
[19] أخرجه البخاري (1418).
[20] أخرجه البخاري (2812).
[21] انظر: سلسلة مقالات للكاتب عن غزوة أحد ودروسها وعبرها، نُشرت على موقع رسالة الإسلام.
[22] أخرجه مسلم (3346).
[23] أخرجه البخاري (3343).
[24] ابن هشام (ج1/ص319).
[25] انظر: محمد أمَحزون: منهج النبي، ص80.
[26] أمعاء الجمل المذبوح
[27] أخرجه البخاري (233).
[28] ابن هشام (ج1/ص 355).
[29] أخرجه أحمد (3044)، قال شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح"، والحديث في السلسة الصحيحة (275).
[30] أخرجه الترمذي (4305)، عن ابن عباس وصححه الألباني.
[31] أخرجه أحمد (19230)، قال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح على وهم في إسناده
- المشرف العام لموقع "نبي الرحمة"
إرسال تعليق
جميع الردود تعبر عن رأي كاتبيها فقط ، وحرية النقد متاحة لجميع الأعضاء والقراء والقارئات الكرام بشرط ان لايكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من العبارات البذيئة وتذكر قول الله تعالى " مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد" صدق الله العظيم