0
 غزة : هبة حمدان : 


بعد طرقات على الباب ليفتحه لك بنفسه، تتسلل خطواتك وأنت خلفه، عيونك تسترق النظر على أركان وزوايا سلم درجاته الذي اصطفت على جنابته التحف النادرة، وفي حنايا منزله ما هو أروع من لوحات تعود لمئات السنوات ورسوم قل نظيرها.
«العودة» سلّطت الضوء على مراحل حياته فكان لها اللقاء الآتي:
بطاقة تعريفية
الأستاذ المؤرخ سليم عرفات المبيّض من مواليد عام 1943، مسقط رأسه حي الشجاعية بمدينة غزة، ترتيبه الثالث بين إخوته، نشأ في أسرة متوسطة الحال، والده كان يعمل شرطياً، ما أثر في نشأته المتميزة بالانضباط، يقول: «أبي كان شديداً علينا، فطبع في حياتي وأثّر في انضباطي وترتيبي».
وبدأنا نفض الغبار عن ذاكرته ليعود إلى عام 1948، يحدثنا: «أتذكر خيمة الدراسة، فقد كانت كبيرة وتستوعب ما يقارب 50 طفلاً، ولون الخيمة يميل إلى البنّي تعبث فيها أية هبّة ريح لا تقي حراً ولا برداً، وفي تلك المرحلة كانت هجرة اللاجئين من ديارهم قد بدأت إلى غزة، فكان يُعَمَّم على التلاميذ إن شاهدوا لاجئين قد سكنوا الخيمة أن لا يأتوا».
ذاكرة الزمن
وبعدما أتم الكُتّاب في جامع المحكمة، ويطلق عليها المحكمة الأبريديكية، التحق بمدرسة الشجاعية التي كان يطلق عليها اسم مدرسة الجرن، وكانت قد بنيت في أيام الانتداب البريطاني، وهي مكونة من أربع غرف من الطين.
ويشير المبيض إلى أنه في اليوم الأول وقف المدرس وقد لفت نظره لبسه الطربوش، مضيفاً: «بدأت فصول قصتي التي أتذكرها كالأحلام عندما كانت أمي تمسكني بيدي لتأخذني شرق غزة لمنطقة تسمى الحواكير يوجد في إحداها محجار»، وهو لاستخراج الحجارة البلدي «أشبه بمغارة كنا نختبئ في هذه المغارة فتأتي الطائرات ونسمع دوي الانفجارات».
أكسر وأنا أجبر
يصف المبيض وضع غزة بعد النكبة بالبؤس وانتشار الفقر «لم يكن غريباً أن ترى الجميع -إلا ما ندر- حفاة ويرتدون ملابس مرقعة «مهلهلة وبالية»، حتى امتد الأمر ليصل إلى المدرسين. أذكر في إحدى المرات والمدرس يشرح لنا الدرس ثم أدار لنا ظهره، فإذا بالبنطال الذي يرتديه موصول بقطعة قماش أخرى.
في تلك الفترة كان من ضمن المدرسين في مدرستي الأستاذ الشاعر هارون رشيد والأستاذ نظمي الزهارنة، وكان للمدرس هيبته ووقاره وتطاع كلمته دون جدل، والسبب في ذلك أن أهل التلميذ كانوا يعملون بالمثل الفلسطيني «اكسر وأنا أجبر» فتُعطى كل الصلاحيات للمدرس».
وعن حبه الفطري للتاريخ، ذكر المبيض أنه نجم عن هواية كان يتمتع بها، وهي جمع النقود القديمة مع زيارته التي تكاد تكون شبه يومية لمختلف المدن الفلسطينية وما كان يراه من آثار قديمة، عززها بحثه الخاص بهضبة الخليل، ما دفعه لقراءة العديد من المراجع والأبحاث.
ويقول: «وجدت نفسي أكتب عن هذه المواضيع فصدر لي كتاب عن النقود العربية الفلسطينية التي سكّتها المدنية الأجنبية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة سنة 1989 وكتاب آخر عن «النقود الفلسطينية 1927-1946» عن سلطة النقد الفلسطينية سنة 1998.
وقد كان للبروفسور عبد المنعم أبو بكر تأثير خاص عليه جعله يحب التاريخ. ومن الشخصيات التي عاصرها وأثرت في شخصيته الدكتور جمال حمدان، العالم الجغرافي المصري، حيث تأثّر بأسلوب بحثه ولغته الأدبية الرصينة وعمق تحليله وقدرته على التفكير واستشعار المستقبل من الواقع الجغرافي.
قتلوه أمامي
وفى معرض رده على سؤالنا له، عن أكثر يوم أحس فيه بمرارة الحزن، يسرح برهة من الزمن وكأنه عاد ليعيش الموقف فيقول: «يوم الجمعة الثاني من نوفمبر من عام 1956، يوم دخول القوات الصهيونية مدينة غزة، كنت أقطع الشارع الرئيسي وأنا عائد إلى بيتي وبجواري امرأة بيدها زميل لي بالدراسة اسمه فرج مشتهى، فجأة سمعت رصاصة، وعلى إثرها وقع فرج على الأسفلت ففررت هارباً وقادتني قدماي إلى شارع المحكمة، وهو أقرب شارع فرعي ودخلته، عند نهاية الشارع وجدت جدته تبكي وتولول، بينما كان الناس ينظرون إليها وقد حاولوا على خوفٍ منهم أن يسحبوا فرج، لأن الجندي الصهيوني الذي كان يقف وسط الشارع قبالة حمام الشجاعية يأمر كل من يراه يسير في الشارع أن يدير ظهره ويطلق عليه الرصاص بدم بارد، وهذا المنظر لا يفارقني منذ طفولتي».
الجدير بالذكر أن المبيض أصدر ثلاثة عشر كتاباً، بالإضافة إلى كتب لم تصدر بعد، وما زالت تحت الطباعة، وكان أول مؤلفاته «الجغرافية الفولوكلورية» وهو عن الأمثال الشعبية الفلسطينية، , الصادر وهو صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة سنة 1986.
فرحة عمري
أما عن اللحظة التي شعر فيها بفرحة غامرة فيقول المبيض: «عندما تم قبول نشر كتابي الأول سنة 1986 «الجغرافية الفولكلورية» شعرت بذاتي وبعظم إنتاجي وعطائي». ومن المآثر التي يفتخر بها المبيض إعادة نشر كتابه «ملامح الشخصية الفلسطينية في أمثالها الشعبية»، ضمن سلسلة القراءة للجميع سنة 2007، وكذلك إعادة نشر كتاب «الإبل في التراث الشعبي» سنة 2008 تحت رعاية سوزان مبارك.
يوضح المبيض أن أكبر عمل ضخم قام به هو المساهمة الفاعلة في بناء هيئة دار الكتب الوطنية الفلسطينية إثر قرار من المرحوم الرئيس أبو عمار بتعيينه أميناً عاماً لهيئة دار الكتب الوطنية الفلسطينية.
أما أهم المهن والمناصب التي تولاها، فقد عمل مدرساً في مدرسة يافا الثانوية، ثم انتقل في دار المعلمات، ثم مديراً لمدرسة الكرمل عام 1987، ثم موجهاً فنياً في وزارة التعليم حتى عام 1996. وبقدوم السلطة الوطنية أصبح أميناً عاماً لهيئة دار الكتب الفلسطينية من عام 1997 إلى 2000 حتى أصبح مديراً عاماً في مركز التخطيط التابع للرئيس.
قفص الاتهام
تابع المبيض بعدما اعتلت البسمة محياه: «أغرب وأطرف موقف مرّ في حياتي، عندما كنت في قفص الاتهام لدى المحكمة العسكرية الصهيونية، وكنت متهماً برفع العلم الفلسطيني والتحريض على التظاهرات، فوجئت في المحكمة بشاهد إثبات ضدي حاضر بالمحكمة يقطن بأريحا وأنا من سكان غزة، وعند المواجهة أمطرته بوابل من الأسئلة أربكته ووقع في حيرة من أمره وخرج هارباً من قاعة المحكمة وسط تهليل جمهور المشاهدين وانفضّت المحكمة بإغلاق ملفي والإفراج عني، كان ذلك في كانون الثاني (يناير) عام 1968».
شارك المبيض في عدة مؤتمرات خارجية، منها مؤتمر وزراء الثقافة في الرباط عام 1998 والمؤتمر العالمي للتعليم في فلسطين قدم خلاله دراسة تم نشرها عن رواد المعارف في غزة.
التاريخ والجغرافيا
ويظهر تأثير جمال حمدان صاحب «عبقرية المكان» في المبيض حين يشدد على أن هناك مزاوجة بين الجغرافية والتاريخ دون انفصام فيها، فالجغرافية توجّه التاريخ وتقوده، لأن التاريخ مجرد أحداث ووقائع يحدثها الإنسان، والإنسان ابن بيئته، فالتاريخ نتاج الجغرافية، والإنسان بطبيعة حاله ابن بيئته بل ابن الجغرافية التي عمادها الأرض بما تغلُّه وتنتجه ظاهراً وباطناً، ومن ثم يتوجه الإنسان إلى تحقيق طموحاته ورغباته، ما يدفعه للقيام بالعديد من الممارسات، ومن أبرزها ما يسمى الحروب التي تصنع التاريخ، فالتاريخ إذاً هو نتاج الجغرافية. ويغوص المبيّض أكثر ليؤكد أن هواياته «تمثلت في علم الجغرافية التاريخية وعلى أثرها قمت بتأليف كتاب «غزة وقطاعيها.. دراسة في خلود المكان وحضارة السكان». وقد نشرته سنة 1987 الهيئة المصرية العامة للكتاب».
ويرى أن «الرغبة والاطلاع والطموح المؤيد بالقراءة الدؤوبة المعمّقة تكفل أن تصنع من الشخص العادي مؤرخاً».
وعن مثابرته وإصراره على تحقيق مشاريعه وأحلامه، سألته عن أمر لم يستطع تحقيقه، قال المبيض: «ربنا منحني كل ما أريده والحمد والشكر له، لكنني لم أستطع الحصول على الدكتوراه بسبب حرب 1967 فكنت في غزة وقد حصلت على الماجستير من جامعة عين شمس، فاحتُلت سيناء ولم أستطع الوصول إلى مصر، لكني بصراحة غير نادم فقد تفرغت للتأليف بدل الدكتوراه».
وعن أمنيته في الحياة، أوضح المبيض أنه يأمل إكمال طباعة العديد من أبحاثه ونشرها، التي من أبرزها «البلديات الغزية 1893- 1994»، ودراسة في النقود التي تم تداولها في فلسطين على مر العصور، وأنهى كلامه بعبارة «إن كنت تريد معرفة تاريخ شعب فتتبّع نقوده وطوابع بريده فتفضح لك أسرار تاريخه».
وتبقى فلسطين تحتضن آلافاً من أمثال هذا المؤرخ الذي أصبح موسوعة تاريخية تمشي على الأرض، ويبقى الأمل بإيجاد محضن يتكفل بمتابعة إبداعات هؤلاء لكي تظهر مؤلفاتهم وجهودهم للقراء والجمهور 






نقلا عن موقع "العودة"

إرسال تعليق

جميع الردود تعبر عن رأي كاتبيها فقط ، وحرية النقد متاحة لجميع الأعضاء والقراء والقارئات الكرام بشرط ان لايكون الرد خارج نطاق الموضوع وأن يكون خال من العبارات البذيئة وتذكر قول الله تعالى " مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد" صدق الله العظيم

 
الى الاعلى